سورة سبأ - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)}
قوله تعالى: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا} أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع {ذلِكَ} نصب، أي جزيناهم ذلك بكفرهم. {وهل يجازى إلا الكفور} قراءة العامة {يجازي} بياء مضمومة وزاي مفتوحة، {الكفور} رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: {نُجازِي} بالنون وكسر الزاي، {الْكَفُورَ} بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لان قبله {جَزَيْناهُمْ} ولم يقل جوزوا. النحاس: والامر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا. مسألة- في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا، فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر.
وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب، وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله، فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يثاب.
وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب.
وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من حوسب هلك» فقلت: يا نبي الله، فأين قوله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} [الانشقاق: 8]؟ قال: «إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك». وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير، ويبين هذا قوله تعالى في الأول: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا} وفي الثاني: {وهل يجازى إلا الكفور} ومعنى {يجازى}: يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى {جَزَيْناهُمْ}. وفيناهم، فهذا حقيقة اللغة، وإن كان جازى يقع بمعنى جزى. مجازا.


{وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)}
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً} قال الحسن: يعني بين اليمن والشام. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون {بارَكْنا فِيها} بكثرة العدد. قرئ: {ظاهِرَةً} قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام.
وقال قتادة: معنى {ظاهِرَةً}: متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية.
وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل {ظاهِرَةً} أي مرتفعة، قاله المبرد.
وقيل: إنما قيل لها {ظاهِرَةً} لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. {وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. {سِيرُوا فِيها} أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفية إضمار القول. {لَيالِيَ وَأَيَّاماً} ظرفان {آمِنِينَ} نصب على الحال. وقال: {لَيالِيَ وَأَيَّاماً} بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم، أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.


{فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}
قوله تعالى: {فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا} لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الاسفار والكدح في المعيشة، كقول بني إسرائيل: {فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها} [البقرة: 61] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} [الأنفال: 32] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا، فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة {رَبَّنا} بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لان معناه: ناديت ودعوت. {باعِدْ} سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: {رَبَّنا} كذلك على الدعاء {بعد} من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: {رَبَّنا} رفعا {باعد} بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس {ربنا بعد بين أسفارنا} بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري {ربنا بعد بين أسفارنا} {رَبَّنا} نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: {بعد بين أسفارنا} ورفع {بين} بالفعل، أي، بعد ما يتصل بأسفارنا.
وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب {بين} على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي بكفرهم {فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا {صَبَّارٍ} عن كذا. {شَكُورٍ} لنعمه، وقد مضى هذا المعنى في البقرة.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9